مستقبل سيارات البنزين في زمن السيارات الكهربائية القادم في السعودية
تعيش صناعة السيارات العالمية حالياً لحظة فارقة بين ماضي سيارات البنزين وحاضر السيارات الكهربائية ومستقبلها المتوقع. تتزايد الأسئلة في السوق السعودي حول مصير سيارات الوقود التقليدية في ظل تسارع توجه العالم نحو المركبات الكهربائية، مدفوعاً بتحولات بيئية وتقنية واقتصادية غير مسبوقة. بينما تتجه الأنظار إلى دول أوروبا وأمريكا وآسيا كقوى تقود هذا التغيير، تبرز المملكة كلاعب محوري يراقب المشهد لاستلهام ما يناسب خصوصيته وقيمه الاقتصادية والطموحة لرؤية 2030.
فما السيناريوهات الواقعية لمستقبل سيارات البنزين في المملكة؟ وكيف تبدو خريطة هذا التحول في ضوء المعطيات الدولية والمحلية؟ وهل سنشهد نهاية قريبة لعصر محركات الاحتراق الداخلي أم أن الطريق لا تزال طويلة أمامها في الشارع السعودي؟
تحولات تهز عرش البنزين
تشير الدراسات إلى أن محركات البنزين والديزل شكلت العمود الفقري لقطاع النقل قرناً من الزمان. لكن السنوات الأخيرة شهدت قفزة هائلة في مبيعات السيارات الكهربائية، مدفوعة بضغوط بيئية واقتصادية وتقنية. ارتفع حجم السوق العالمي للمركبات الكهربائية من 170 مليار دولار في 2021 إلى 208.6 مليار دولار في 2022، مع توقعات أن يبلغ 1103 مليارات دولار في 2030 بمعدل نمو سنوي مركب 23.1%.
الحركة المتسارعة نحو هذا التحول ليست عشوائية، بل مدفوعة باستراتيجية واضحة وتوجه سياسي وقانوني صارم في كثير من الدول. من باريس إلى كاليفورنيا، تتسارع الهيئات التنظيمية في إقرار حظر بيع واستخدام سيارات البنزين في أفق 2030-2035. وتجسد النرويج أقوى هذه التحولات، إذ شكلت السيارات الكهربائية 75% من مبيعاتها في 2020 ومن المتوقع أن تصل بها إلى 100% قبل 2025.
هذا الزخم غير المسبوق دفع عمالقة الصناعة العالمية مثل جاغوار، فولفو، جنرال موتورز، هيونداي وحتى علامات فاخرة مثل لوتس لإعلان تواريخ محددة لتحويل إنتاجها بالكامل نحو السيارات الكهربائية خلال الأعوام المقبلة.
دوافع تقود إلى التغيير
يتضح من المعطيات أن العوامل البيئية هي القوة الدافعة الأساسية. التغير المناخي والاحتباس الحراري يقودان أجندات الحكومات ويحفزان الشركات نحو خيارات أكثر استدامة. الاشتراطات البيئية ومطالب المجتمع العلمي ومنظمات البيئة باتت تضغط بشدة لتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري، الذي يعتبر المصدر الرئيسي لانبعاثات الغازات الدفيئة.
اقتصادياً، أدت التقلبات الحادة في أسعار النفط، المدفوعة بالأحداث الجيوسياسية مثل الحرب الروسية الأوكرانية، إلى تحفيز النمو في الطاقة البديلة. ومع ارتفاع سعر برميل النفط لما يفوق 100 دولار في ظروف الأزمات، أصبحت الكهرباء (خاصة المولدة من مصادر متجددة) أكثر إغراءً للمستهلكين والشركات وحتى الحكومات.
تقنياً، يجري السباق حالياً ليس فقط لإنتاج سيارات كهربائية، بل لتطويرها بحيث تصبح أكثر اعتمادية وأطول مدى وأسرع شحناً وأقل تكلفة من أي وقت مضى. دخول شركات ناشئة (مثل ريفيان وبايتون) يعكس ديناميكية هذا القطاع ومدى جاذبية السوق للابتكار والاستثمار طويل الأجل.
مستقبل البنزين: زوال تدريجي أم تعايش مرحلي؟
تشير توقعات بعض المحللين إلى أن سيارات البنزين قد تخرج من الخدمة تدريجياً خلال عقد من الزمن، يرى آخرون أن محركات الاحتراق الداخلي ستدوم لفترة أطول بكثير. فمتوسط عمر السيارة عالمياً يتراوح اليوم بين 12 إلى 15 عاماً، مما يعني أن أي تحول كامل أسطولياً سيحتاج ما لا يقل عن 20-25 سنة، حتى لو بدأت جميع السيارات المباعة اليوم بالعمل بالكهرباء حصراً.
إلى جانب ذلك، يلاحظ المتابعون أن الزخم العالمي للسيارات الكهربائية لا يعني أن سيارات البنزين ستختفي فجأة من الطرقات. هناك عدة أسس موضوعية تعزز فكرة “التعايش المرحلي” بين الأنواع، منها:
- وجود بنية تحتية واسعة وعميقة لبيع وصيانة سيارات الاحتراق الداخلي يصعب تجاوزها خلال فترة قصيرة.
- ارتفاع تكلفة إنتاج بعض السيارات الكهربائية حتى الآن وقلة الخيارات في بعض الفئات المهمة (مثلاً: شاحنات النقل الخفيف والثقيل).
- محدودية توافر محطات شحن الكهرباء في كثير من المدن والمناطق الريفية حول العالم وفي السعودية بشكل خاص حتى اليوم.
السيارات الهجينة والطريق إلى الانتقال المتدرج
يرى بعض خبراء الصناعة أن السيارات الهجينة (Hybrid) ستلعب دور “جسر انتقالي”، حيث تجمع بين مزايا محركات البنزين ودفع الكهرباء في آن واحد، وتساهم في تقليل الانبعاثات وتوفير استهلاك الوقود دون التضحية بالمدى والمرونة. يمثل صعود هذه الفئة حلاً عملياً للمترددين أو لمن يواجهون عقبات في التحول الفوري إلى الكهربائية الكاملة.
توقعات الخبراء حول مستقبل سيارات البنزين
استناداً إلى تصريحات خبراء الصناعة والمسؤولين التقنيين:
- ستظل سيارات البنزين متواجدة بأعداد كبيرة حتى العقد الثالث من القرن الحالي.
- التحول الشامل سيتحقق بخطى أسرع في الدول المتقدمة وأبطأ نسبياً في الأسواق الناشئة أو الأقل تطوراً تقنياً وبنيوياً.
- التحسن المستمر في كفاءة محركات الاحتراق الداخلي سيواصل خفض الانبعاثات، مع تشديد المعايير البيئية على صناع السيارات في السعودية والمنطقة العربية ككل.
- من المرجح أن تتناقص تدريجياً الحوافز المالية لشراء سيارات البنزين في فترة الانتقال، وتعزز امتيازات المركبات الكهربائية والحلول النظيفة.
محليًا: تحديات وفرص أمام التحول الكهربائي
تشهد السعودية زخماً ملحوظاً في طرح الرؤى الاستراتيجية للطاقة والنقل المستدام، وذلك في ظل رؤية المملكة 2030 ومشاريع التحول الكبرى مثل نيوم. مع ذلك، ثمة اعتبارات واقعية تفرض على السوق مساراً خاصاً، إذ يفوق أسطول السيارات في المملكة 10 ملايين مركبة، أغلبها يعمل بالبنزين.
تتوزع التحديات أمام الانتقال الكبير نحو السيارات الكهربائية في السعودية بين مسائل تتعلق بالبنية التحتية وملائمة التقنيات للمناخ الصحراوي ومتطلبات القيادة لمسافات طويلة، وصولاً إلى توفر الخيارات السعرية المناسبة والمحفزات الحكومية المنتظرة. في المقابل، هناك رغبة حقيقية من القطاعات العامة والخاصة في تطوير الصناعة المحلية للسيارات الكهربائية، كما تعكسه شراكات مع شركات عالمية وخطط لتأسيس مصانع التجميع والتصنيع المحلي.
تحديات التحول إلى الكهرباء في السعودية والخليج
تواجه أسواق الخليج عموماً والسعودية خصوصاً عدداً من التحديات المرحلية في سبيل تكامل سوق السيارات الكهربائية، من بينها:
- الاعتماد شبه الكامل للبنية التحتية على مركبات البنزين والديزل حالياً.
- مستوى الاستثمار المطلوب لبناء شبكة واسعة وموثوقة لمحطات شحن السيارات الكهربائية على مستوى المملكة الشاسع.
- تأثير درجات الحرارة العالية على أداء البطاريات وتكنولوجيا السيارات الكهربائية، ما يتطلب حلول تبريد متقدمة ودعم فني محلي.
- التغير في أنماط الاستهلاك والثقافة المجتمعية تجاه السيارات الكهربائية، التي لا تزال محل تساؤلات بالنسبة للمدى واستهلاك الوقت في الشحن والاعتمادية على المدى البعيد.
- سؤال التكلفة الإجمالية للملكية، مع بقاء أسعار بعض السيارات الكهربائية مرتفعة مقارنة بالبنزين، ووجود خيارات مستعملة كثيرة بأسعار مناسبة للغالبية.
المستهلك واستراتيجيات المصنعين
تشير الإحصاءات إلى تحول تدريجي في سلوك المستهلك السعودي والعربي عموماً، إذ بدأت اتجاهات الإقبال على السيارات النظيفة تتزايد، خاصة بين شرائح الشباب والفئات الأكثر وعياً بالبيئة. النمو اللافت لمبيعات السيارات الهجينة والفخمة الكهربائية يعكس بداية لمرحلة قبول أوسع في السنوات القليلة المقبلة.
من جهة أخرى، تتكيف مصانع السيارات العالمية مع هذا التحول من خلال استراتيجيات تجمع بين طرح خيارات هجينة وكهربائية ومحسنة للوقود التقليدي في نفس الوقت، لتلبية احتياجات متنوعة بين الأسواق سريعة التحول والأسواق التي لا تزال في طور الاستعداد.
توقعات العقد القادم
من قراءة جميع المعطيات العالمية والمحلية، يبرز المشهد السعودي باعتباره تجمعاً بين الاحتفاظ بمركزية سيارات البنزين لفترة انتقالية وبين تسارع التحول مع اكتمال البنية التحتية والتطويرات التشريعية اللازمة.
فيما يلي جدول يلخص أبرز المؤشرات الرقمية والتوقعات:
| المؤشر | الوضع الحالي (2024) | التوقعات حتى 2030 |
|---|---|---|
| نسبة السيارات الكهربائية من إجمالي السوق | أقل من 2% | بين 8% و15% (مع تسريع الاستثمارات) |
| عدد مركبات البنزين المستعملة | ما يزيد عن 9 ملايين | تناقص تدريجي بمتوسط 3-4% سنوياً |
| حوافز الشراء والتملك للسيارات الكهربائية | بدايات محدودة/غير منتظمة | توقع تحفيزات قوية وربما إعفاءات ضريبية |
| البنية التحتية لشحن السيارات الكهربائية | أكثر من 500 نقطة شحن (تقديري) | أهداف لآلاف نقاط الشحن وخدمات الصيانة المساندة |
هل ستستمر سيارات البنزين على طرقات المملكة؟
بالرغم من كل الزخم، يلاحظ الخبراء أن وجود سيارات البنزين سيظل ضرورياً لبعض الوقت لأسباب تتعلق بخصوصية السوق وتكلفة الاستبدال وتفاوت البنية التحتية بين المدن. هذا يعني أن المرحلة القادمة ستتسم بالتدرج، حيث يتوقع:
- تحسن متسارع في كفاءة سيارات البنزين وتقنياتها المتطورة للحد من التلوث.
- زيادة الاعتماد على السيارات الهجينة كخيار وسطي حتى تكتمل جاهزية البنية التحتية والوعي المجتمعي.
- خطوات تنظيمية من الجهات الحكومية لوضع معايير أشد للانبعاثات وربما فرض قيود تدريجية على استخدام أو بيع السيارات القديمة الملوثة.
- مواصلة عمليات مصانع ووكلاء السيارات التقليدية جنباً إلى جنب مع مصنعين جدد متخصصين في السيارات الكهربائية.
الخلاصة
تشير جميع المؤشرات إلى أن صناعة السيارات مقبلة على تحول جذري خلال العقدين القادمين، مع انتقال مركز الثقل تدريجياً من محركات البنزين إلى الكهرباء. ومع ذلك، يستبعد المراقبون اختفاء سيارات البنزين بسرعة في السعودية والمنطقة. سيبقى وجودها حيوياً لسنوات، ويترافق مع تحسن ملحوظ في كفاءتها وتقنيات تشغيلها.
من المرجح أن نشهد السنوات الخمس القادمة بوادر تحول كبير في السوق السعودي، مع إطلاق المزيد من الطرازات الكهربائية وتهيئة المحطات وتحفيز القطاع الخاص، إضافة إلى برامج حكومية مرحلية تشجع التحول وتحد تدريجياً من هيمنة البنزين. ومع مراقبة التجارب العالمية وتكييفها مع خصوصية المملكة، يتوقع أن تتسارع وتيرة اعتماد السيارات الكهربائية بطريقة مدروسة تدعم التنمية المستدامة وتحقق الأهداف الوطنية لقطاع النقل.
المحصلة: مستقبل سيارات البنزين في السعودية مرتبط بوتيرة تجهيز البنية التحتية، ووضوح التنظيمات، ونضج التجربة المجتمعية. رغم أن انتهاء عهد البنزين كلياً لم يحن بعد، إلا أن إشارات التحول تزداد وضوحاً، مع الاستعداد لمستقبل يوازن بين متطلبات الابتكار واحتياجات الواقع السعودي الفريد.





